رواية قيد الظلال : مستوحاة من رواية الناقوس

 

الفصل الأول: البدايات المضيئة


جلست مريم بجانب نافذة صغيرة تطل على شارع مزدحم، الكاميرا في يدها وكأنها امتداد لجسدها. أزيز السيارات، وأصوات الباعة الجائلين، وضحكات الأطفال في الحي الذي نشأت فيه، كل هذه الأصوات كانت تشكل الخلفية اليومية لحياتها. لكنها اليوم لم تكن كعادتها؛ هذا اليوم كان مختلفاً.

قبل أقل من ساعة، تلقّت مكالمة من اللجنة المسؤولة عن مسابقة التصوير الوطنية. فازت مريم بالجائزة الأولى، وهي فرصة للعمل مع واحدة من أكبر وكالات التصوير في العاصمة. شعرت وكأن العالم بأسره يصفق لها، ولكن داخلها، كانت هناك همسات خافتة من الشك.

"هل أستحق هذا حقاً؟ ماذا لو كنت مجرد صدفة؟"

في ذلك المساء، عادت مريم إلى المنزل وأخبرت والدتها. والدتها، التي كانت تعمل خياطة طوال حياتها، استقبلت الخبر بابتسامة فخر، لكنها كانت تعلم أن وراء تلك الابتسامة قلقاً دفيناً.

  • "مريم، النجاح جميل، لكنه ليس دائماً كما يبدو. الحياة ليست صورة تلتقطينها وتختارين زواياها. أحياناً تفرض عليك زواياها، وعليك أن تتعلمي كيف تتعاملين معها."

لم تفهم مريم تلك الكلمات تماماً، لكنها ابتسمت وغمرت والدتها بحضن طويل.

عندما وصلت إلى العاصمة في صباح يومها الأول للعمل، شعرت مريم وكأنها دخلت إلى عالم مختلف تماماً. المباني الشاهقة، الناس الذين يرتدون بدلات أنيقة ويتحدثون بسرعة، شوارع المدينة اللامعة التي لم تعرفها من قبل. كل شيء كان جديداً ومبهراً، لكنه أيضاً كان مخيفاً.

دخلت مريم مبنى الوكالة لأول مرة. الجدران الزجاجية والديكور العصري أعطيا المكان طابعاً يشبه المعارض الفنية أكثر من كونه مكتباً. قابلتها سكرتيرة بوجه جامد وأخذتها إلى غرفة الاجتماعات، حيث كان ينتظرها عاصم، مدير الوكالة.

عاصم، رجل في أواخر الأربعينيات، ذو وجه خالٍ من التعابير وصوت بارد. رحّب بها بكلمات مقتضبة ثم بدأ في شرح تفاصيل العمل.

  • "عملنا هنا لا يتعلق بالتقاط الصور فحسب. نحن نصنع قصصاً. الصور التي تلتقطينها يجب أن تحمل رسالة، أن تُغير شيئاً. هل تفهمين؟"

أومأت مريم برأسها، لكن شيئاً في صوته جعلها تشعر بالتوتر.

خلال الأسبوع الأول، كُلّفت مريم بمهام بسيطة: مراجعة الصور القديمة، متابعة جلسات التصوير التي يقوم بها المصورون الآخرون، والمساعدة في تنسيق المشاريع. كانت تشعر وكأنها "متفرجة" على عالم كبير لا تنتمي إليه بعد.

وفي إحدى الأمسيات، بينما كانت ترتب أرشيف الصور، وجدت صورة لطفل يبتسم وسط حطام منزل مهدم. الصورة أثارت شيئاً داخلها. أمضت دقائق طويلة تحدق فيها، تفكر في القصة التي خلفتها. كانت الصورة تحمل توقيع عاصم، ما جعلها تتساءل إن كان ذلك الجانب الإنساني لا يزال موجوداً فيه أم أنه مجرد ماضٍ تخلّى عنه.

 

في اجتماع صباح اليوم التالي، عرض عاصم مشروعاً جديداً لتوثيق أحد الاحتفالات الكبرى التي ستقام في المدينة. كانت هذه المرة الأولى التي يُطلب منها المشاركة في عمل ميداني. شعرت بالإثارة والخوف في آنٍ واحد. عاصم اختتم الاجتماع بعبارة أثارت توترها:

  • "العمل هنا ليس مدرسة. إما أن تُثبت وجودك أو ترحل."

بعد انتهاء الاجتماع، شعرت مريم برغبة في العودة إلى المنزل. لكنها أدركت أن هذه الفرصة لا تأتي مرتين.

في مساء اليوم نفسه، اتصلت بصديقتها المقربة ليلى. كانت ليلى صوتها العقلاني دائماً، والصديقة التي تلجأ إليها في لحظات الشك.

  • "مريم، أنتِ تُحاولين كثيراً أن تُرضي الجميع. لكن تذكري، العمل في الفن هو أولاً وأخيراً أن تُرضي نفسك. إذا شعرت أن هذه ليست حقيقتك، فلا تخافي من الاعتراف بذلك."

كانت كلمات ليلى تطارد مريم وهي تستعد لأول مهمة تصويرها الميدانية.

 

الفصل الثاني: سقوط العدسة

مرت ثلاثة أشهر منذ أن بدأت مريم عملها في الوكالة. من الخارج، بدا كل شيء وكأنه يسير بشكل طبيعي؛ فتاة شابة تحقق حلمها بالعمل مع واحدة من أكبر وكالات التصوير في المدينة. ولكن في الداخل، كان هناك شعور متزايد بأنها تفقد شيئاً مهماً داخلها.

كان جدول عملها مرهقاً: مشاريع متتالية، اجتماعات مطولة، ونقد لا يتوقف من مديرها عاصم. كل صباح كانت تقف أمام مرآتها، تحاول إقناع نفسها بأنها قادرة على الصمود، لكن وجهها كان يفضح مشاعرها. أصبحت الكاميرا، التي كانت يوماً مصدر سعادتها، عبئاً على روحها.

في أحد الأيام، كُلّفت مريم بمهمة لتوثيق حفل افتتاح معرض ثقافي كبير في المدينة. الحفل كان يحضره مسؤولون وشخصيات معروفة، وتم تحديده كحدث إعلامي ضخم. شعرت مريم بمزيج من الحماس والخوف. هذه كانت فرصتها لإثبات جدارتها، لكنها في الوقت ذاته لم تستطع تجاهل صوت داخلي يهمس بأنها ليست مستعدة.

قبل الحدث، أمضت مريم الليل في تجهيز معداتها ومحاولة رسم خطة واضحة للصور التي ستلتقطها. كتبت في دفتر ملاحظاتها:

  • "أبحث عن التفاصيل التي لا يلاحظها الآخرون. أريد أن أُظهر الجمال المخفي."

لكن ما لم تكن مريم مستعدة له هو ضغط العمل الميداني.

في يوم الحفل، وصلت مريم إلى الموقع وهي تشعر بثقل المسؤولية. الأضواء الساطعة، الصحفيون المتدافعون، والمسؤولون الذين يتحركون في كل اتجاه جعلوها تشعر وكأنها جزء صغير في آلة ضخمة. بدأت بالتقاط الصور، محاولة التركيز على اللحظات البسيطة التي تحمل عمقاً.

وفي لحظة من التوتر، التقطت صورة لرجل يتحدث إلى مسؤول مهم. لم تدرك مريم أن زاوية الصورة أظهرت تعبيراً محرجاً للرجل قد يُفسر بطريقة خاطئة. كانت تركز على الإضاءة والتكوين، لكنها لم تنتبه إلى التفاصيل التي ستُحدث كارثة لاحقاً.

في صباح اليوم التالي، استيقظت مريم على صوت هاتفها يرن بلا توقف. فتحت عينيها لتجد رسائل غاضبة من زملائها. الصورة التي التقطتها أصبحت حديث الجميع على وسائل التواصل الاجتماعي، وانتشرت بسرعة كالنار في الهشيم. الرجل الذي في الصورة كان شخصية معروفة، والطريقة التي ظهرت بها جعلته محط سخرية وانتقادات.

دخلت مريم الوكالة ذلك اليوم ووجوه الجميع تحمل تعبيرات تتراوح بين الاستياء والشفقة. استدعاها عاصم إلى مكتبه فوراً.

  • "كيف يحدث هذا، مريم؟ قلت لكِ مراراً، التفاصيل هي كل شيء!"
    حاولت مريم الدفاع عن نفسها:
  • "لم أقصد أن يحدث هذا. كنت أركز على..."
    قاطعها عاصم بحدة:
  • "لا يوجد أعذار. هذا الخطأ لا يُغتفر. لقد أضررتِ بسمعتنا جميعاً."

بعد اجتماع قصير ومتوتر، خرجت مريم من المكتب وهي تشعر أن حياتها المهنية انتهت قبل أن تبدأ.

تراجعت مريم إلى منزلها، وأغلقت باب غرفتها، وأخرجت الكاميرا من حقيبتها. حدقت فيها طويلاً قبل أن تضعها في صندوق وتغلقه بإحكام. شعرت وكأنها تدفن جزءاً من نفسها.

خلال الأيام التالية، توقفت عن التواصل مع زملائها وأصدقائها، حتى ليلى التي حاولت الاتصال بها مرات عديدة دون جدوى. بدأت مريم تغرق في دائرة من الأفكار السلبية، تتساءل إن كانت أحلامها مجرد وهم كبير.

 

الفصل الثالث: قيد الظلال



أصبحت الأيام تمضي ببطء. كانت مريم تقضي ساعات طويلة في السرير، تحدق في سقف غرفتها. كل ما حدث جعلها تشعر وكأنها فقدت هويتها. كانت تخشى النظر إلى الكاميرا أو حتى التفكير في التصوير.

في إحدى الليالي، وبينما كانت تبحث عن شيء تفعله، وجدت دفتر يومياتها القديم. كان مغبراً ومهملاً في زاوية بعيدة من مكتبتها. فتحته لتجد ملاحظات كتبتها عندما كانت مراهقة. إحدى الصفحات كانت تحمل جملة كتبتها بعد فوزها بأول مسابقة تصوير صغيرة:

  • "التصوير ليس عن الكاميرا، بل عن الروح التي ترى الجمال في كل شيء."

كانت الكلمات تبدو وكأنها تنتمي لشخص آخر.

في صباح يوم غائم، قررت مريم الخروج من منزلها. مشت بلا هدف حتى وجدت نفسها أمام مقهى صغير لم تزره من قبل. دخلت وجلست في زاوية هادئة. هناك، لاحظت رجلاً يجلس على طاولة مجاورة، يحمل كاميرا قديمة ويبدو وكأنه يدرسها بتمعن.

بعد لحظات من التردد، توجهت إليه وسألته:

  • "هل ما زلت تصوّر؟"
    رفع الرجل رأسه ونظر إليها بابتسامة خفيفة.
  • "كنت أصوّر يوماً. الآن، أُحاول أن أستعيد ما فقدته."

هكذا بدأت مريم حديثها مع يوسف. اكتشفت أنه مصور سابق ترك المهنة بعد حادث مؤلم. كان يوسف مختلفاً عن أي شخص قابلته من قبل؛ كان يرى الأشياء ببساطة وعمق.

  • "الخطأ ليس نهاية الطريق، مريم. أحياناً نحتاج إلى التراجع لنرى الصورة بشكل أوضح."

 

الفصل الرابع: الرحلة إلى الوضوح

بعد لقاء يوسف، شعرت مريم بأن نافذة صغيرة انفتحت في جدار الظلام الذي كانت تعيش فيه. حديثه عن الأخطاء باعتبارها فرصاً للنمو أثار شيئاً بداخلها. اقترح يوسف عليها أن ترافقه في رحلة إلى قرية نائية للتصوير. كانت تلك دعوة لاستعادة شغفها المفقود. رغم ترددها، وافقت مريم بعد إلحاح منه.

في صباح مشمس، استقلت مريم الحافلة برفقة يوسف. أثناء الرحلة، بدأ يوسف في الحديث عن قصته.

  • "كنت أعيش لألتقط الصور. كانت الكاميرا مثل صديقي الوفي. لكن قبل خمس سنوات، تعرضت لحادث أثناء مهمة تصوير في منطقة نائية. فقدت صديقي في الحادث... ولوقت طويل شعرت أنني فقدت نفسي أيضاً."

تحدث يوسف عن كيف أن الحادث غير نظرته للحياة والتصوير. لم يعد يبحث عن الصور المثالية بل عن القصص الحقيقية، تلك التي تحمل عيوبها وصراعاتها.

  • "تعلمي شيئاً يا مريم: الصورة الحقيقية ليست جميلة دائماً، لكنها صادقة."

وصل الاثنان إلى القرية، وهي مكان يبدو وكأنه توقف في الزمن. المنازل المبنية من الطين، الطرق الترابية، الأطفال الذين يلعبون بفرح، كل شيء كان ينبض بالحياة البسيطة.

بدأ يوسف بتوجيه مريم:

  • "لا تحاولي أن تلتقطي الصورة المثالية. التقطي ما تشعرين به."

حملت مريم الكاميرا لأول مرة منذ أشهر، وشعرت بثقلها وكأنها تواجه صديقاً قديمًا خذلته. وجهت عدستها نحو شجرة قديمة في وسط القرية، لكنها لم تلتقط أي صورة. وقفت طويلاً تحدق، مترددة.

  • "لماذا لا تضغطين على الزر؟" سألها يوسف.
  • "لا أعرف... أشعر أنني فقدت قدرتي على الرؤية."
  • "ربما لم تفقديها. ربما تحتاجين فقط إلى وقت لتتعرفي على نفسك من جديد."

خلال الأيام التالية، بدأت مريم بالتقاط صور للحياة اليومية في القرية. أطفال يضحكون، عجوز يغزل الصوف، امرأة تسقي حقلها الصغير. شيئاً فشيئاً، بدأت ترى الجمال في التفاصيل البسيطة. لكنها كانت لا تزال تشعر بفراغ داخلي، وكأنها تبحث عن شيء أعمق.

في اليوم الثالث، وبينما كانت تتجول على أطراف القرية، زلت قدم مريم وسقطت في ممر جبلي ضيق. رغم أنها لم تصب بأذى خطير، إلا أنها شعرت بخوف شديد، وكأنها كانت على وشك فقدان حياتها. جلس يوسف بجانبها بعد أن ساعدها على النهوض.

  • "كيف تشعرين الآن؟"
  • "مرعوبة... ولكن في نفس الوقت، ممتنة لأنني على قيد الحياة."
  • "هذا هو التصوير يا مريم. أن تشعري بكل لحظة، بكل خوف، بكل امتنان."

في تلك الليلة، كتبت مريم في دفتر يومياتها:

  • "الظلال ليست سوى دليل على وجود النور. في كل صورة ألتقطها، هناك جزء مني يواجه تلك الظلال."

 

الفصل الخامس: الضوء من الظلام

بعد أسبوعين في القرية، عادت مريم إلى المدينة وهي تحمل مجموعة من الصور التي التقطتها بعين جديدة وروح متجددة. عندما عرضت الصور على يوسف، نظر إليها بابتسامة:

  • "الآن، أنتِ لا تلتقطين صوراً فقط. أنتِ تروين قصصاً."

قررت مريم أن تنظم معرضاً صغيراً لعرض الصور التي التقطتها في القرية. استعانت بصديقتها ليلى لمساعدتها في التخطيط للحدث.

  • "أنتِ واثقة من هذا؟" سألتها ليلى.
  • "أنا لا أعرف إذا كنت سأنجح، لكنني أعرف أنني أريد أن أُحاول."

في يوم افتتاح المعرض، شعرت مريم بتوتر كبير. وقفت خلف الستائر وهي تراقب الزوار يدخلون. كان يوسف أول من حضر، تبعه عاصم، مديرها السابق. فوجئت مريم بوجوده، لكنها قررت أن تواجهه.

عاصم نظر إلى الصور ملياً، ثم اقترب منها وقال:

  • "هذه الصور... تحمل شيئاً مختلفاً. شيء لم أره في صورك من قبل."
  • "لأنني توقفت عن محاولة إرضاء الآخرين. هذه الصور تعبر عني، وليس عن توقعات أحد."

ابتسم عاصم وأومأ برأسه، ثم غادر المعرض.

في نهاية المعرض، وقفت مريم أمام صورة كبيرة لها انعكاس على مرآة مكسورة. كانت الصورة ترمز إلى الظلال التي واجهتها، والضوء الذي وجدته في داخلها. وقفت هناك، تنظر إلى الصورة بابتسامة هادئة.

كتبت في دفتر يومياتها في تلك الليلة:

  • "أحياناً، نحتاج إلى الظلال لنُدرك قوة النور بداخلنا. التصوير ليس عن العالم فقط؛ إنه عنك أنت، وكيف ترى نفسك فيه.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أجنحة الامل : مستوحاه من رواية شاهين السماء

مذكرات نشال | للمعلم عبد العزيز "النص"

رواية : ملكة الملح الأسود | 2025

رواية: لعبة الساعات الزجاجية | لا أحد يهرب من عدّاد الذكريات

رواية شمس الغروب | مستوحاة من رواية "كبرياء وتحامل"

رواية : ظل العقاب | مستوحاه من روايه "الشيطان شاهين"

رواية : العابر بين النجوم | عن روايه الأمير الصغير

روايه: ظل القمر | عن قصة الزوجة والثعلب