رواية : حارس الرمال الأبدي | أسطورة الوشق المقدس وسر الفراعنة
الفصل
الأول: ولادة الملوك في البرية
في
أعماق الصحارى والغابات الكثيفة، حيث تمتزج الرمال الذهبية بوميض الشمس الحارقة،
وُلد الوشق كصيادٍ ماهرٍ متخفي. فراؤه الذهبي المنقط، وأذناه المميزتان بخصل
سوداء، جعلته رمزًا للقوة والغموض. كان الوشق يعيش في أقاليم شاسعة تمتد من أوروبا
إلى شمال إفريقيا، لكنه وجد بيئته المثالية في وادي النيل، حيث تكيف مع الصحارى
والمناطق الصخرية المحيطة بالممالك المصرية القديمة.
في هذه
الأراضي الوعرة، كان الوشق يتحرك بخفة وسرعة، يتسلل بين الكثبان الرملية والصخور
الحادة، ويترصد فرائسه بصبر وحذر. كانت عيناه الحادتان تلمعان في الظلام، وهو
يتحرك بسكون وهدوء، يتجنب الأنظار ويختفي في الليل كأنه شبح. كان يعرف كيف يستغل
كل زاوية وكل ظل، ويتحرك بمهارة فائقة، مما جعله صيادًا مخيفًا ومرعبًا للحيوانات
الصغيرة التي تعيش في الصحراء.
لم يكن
الوشق مجرد حيوان عادي، بل كان يُنظر إليه من قبل المصريين القدماء كرمزٍ للصيد
والقوة والذكاء. كانوا يؤمنون بأنه مخلوقٌ مقدسٌ، يُجسد روح الحماية والبصيرة
الحادة التي لا تخطئ. وقد نُحتت صورته على جدران المعابد، بجانب أسياد الصيد وآلهة
الحماية. كان المصريون يعتقدون أن الوشق يحمل قوى خارقة، وأنه يمكنه أن يكون
وسيطًا بينهم وبين الآلهة، فكانوا يقدمون له القرابين ويحتفلون به في مناسبات
معينة.
كانت
هناك أساطير تتناقلها الأجيال عن وشقٍ عظيم يُدعى "أنوبيس"، يُقال إنه
كان يحرس مداخل العالم السفلي، ويرشد الأرواح إلى مكانها الأخير. كان هذا الوشق
يُعتبر حاميًا للموتى، وكان يُرسم على جدران المقابر ليحمي الفراعنة والنبلاء من
الأرواح الشريرة. كان الناس يخافون منه ويحترمونه في الوقت نفسه، وكانوا يعتقدون
أنه يمكنه أن يجلب الحظ أو النحس، حسب ما يراه مناسبًا.
الفصل
الثاني: حارس المعابد الخفي
في عهد
الملك "سنفرو"، كان الوشق يُستخدم كحارسٍ للمخازن الملكية، حيث امتلك
قدرةً فريدةً على اصطياد القوارض والحيوانات الصغيرة التي كانت تهدد محاصيل
المصريين. كان الوشق يتحرك بين المخازن والمستودعات، يترصد الفئران والجرذان التي
تحاول التسلل إلى الحبوب والأطعمة المخزنة. كان يتحرك بسرعة ودقة، يقفز على فرائسه
بمهارة فائقة، ويقضي عليها بضربة واحدة من مخالبه الحادة.
في
إحدى الليالي، تسلل لصٌ إلى أحد مخازن الحبوب في معبد رع، حيث كانت تُخزن القمح
والذهب. كان اللص يعرف أن المكان محروس جيدًا، لكنه كان مقتنعًا بأنه يمكنه التسلل
دون أن يلاحظه أحد. وبينما كان يظن أنه لا يُراقب، انقضّ عليه وشقٌ ضخم، مغلقًا
فكيه على يده. لم يتمكن اللص من الإفلات إلا بعد أن أصدر صرخة مدوية، ليلتف حوله
الحراس الذين وجدوا الوشق يحرس المكان بشراسة.
كان
الحراس مندهشين من مهارة الوشق وشجاعته، فقرروا أن يأخذوه إلى الملك
"سنفرو" ليروي له ما حدث. عندما سمع الملك القصة، أمر بأن يُعامل الوشق
كبطل، وأن يُقدم له الطعام والرعاية التي يستحقها. ومنذ ذلك اليوم، أصبح الوشق
مقدسًا في المعابد، يُعامل باحترام ويُقدم له الطعام كرمزٍ للوفاء والحماية.
بدأت
بعض العائلات النبيلة في تربية الوشق بجانب القصور الملكية، حيث اعتُبر مخلوقًا
يجلب الحظ والازدهار. كانوا يعتقدون أن وجوده يبعد الشر ويجلب البركة، فكانوا
يعتنون به ويحمونه من أي مكروه. وكان الوشق يرد لهم الجميل بحماية القصور والمعابد
من اللصوص والمتطفلين، مما جعله جزءًا لا يتجزأ من حياة المصريين القدماء.
الفصل
الثالث: سر الفرعون المفقود
تحكي
الأساطير عن الفرعون "نيفر كا رع" الذي امتلك وشقًا أبيض نادرًا، كان
يرافقه في كل مكان، حتى في حملاته الحربية. يُقال إن هذا الوشق كان مرشدًا له في
الصحارى، إذ كان بإمكانه استشعار الخطر قبل وقوعه. كان الفرعون يثق في وشقه ثقة
عمياء، وكان يعتمد عليه في اتخاذ القرارات الحربية والسياسية.
في
إحدى الحملات الحربية، كان الفرعون "نيفر كا رع" يقود جيشه نحو الجنوب،
حيث كانت تنتظره معركة حاسمة ضد قبائل متمردة. كان الوشق الأبيض يسير بجانبه،
يراقب الأفق بعينيه الحادتين، وينبهه إلى أي خطر محتمل. وفي إحدى الليالي، بينما
كان الجيش يستريح في مخيمه، اختفى الفرعون فجأة دون أن يترك أي أثر.
عندما
اكتشف الجنود اختفاء الفرعون، بدأوا يبحثون عنه في كل مكان، لكنهم لم يجدوا سوى
وشقه الأبيض، الذي كان يجلس بجانب خيمة الفرعون، ينظر إليهم بعينين حزينتين. قادهم
الوشق إلى كهفٍ قديم في الصحراء، حيث وُجدت بعض مقتنيات الفرعون، مثل خواتمه
وأسلحته، لكن جسده لم يُعثر عليه قط.
وهكذا
نشأت أسطورة أن الفرعون "نيفر كا رع" تحول إلى وشق، وبات يحرس رمال
الصحراء إلى الأبد. كان الناس يتحدثون عنه باحترام وخوف، ويؤمنون أن روحه لا تزال
تحوم في الصحراء، تحمي الضعفاء وتعاقب الأشرار. وكان الوشق الأبيض يُرى أحيانًا في
الليالي المقمرة، يتجول بين الكثبان الرملية، كأنه يبحث عن سيده المفقود.
الفصل
الرابع: لعنة الوشق المقدس
في عصر
الأسرة التاسعة عشرة، حاول أحد الكهنة سرقة تمثالٍ مقدس للوشق من معبد آمون،
معتقدًا أنه يحمل سحرًا قويًا يمكنه من حكم مصر. كان هذا الكاهن يُدعى "أمون
حوتب"، وكان يطمح إلى السلطة والثروة، وكان مستعدًا للقيام بأي شيء لتحقيق
أهدافه. لكن ما أن لامس التمثال حتى شعر بوخزٍ غريب، وسرعان ما بدأت الهلاوس تسيطر
عليه.
زعم
الناس أنه كان يسمع همسات الوشق في الليل، تحذره من العقاب القادم. كان الكاهن
يشعر بالرعب والخوف، وكان يحاول جاهدًا التخلص من اللعنة التي أصابته. لكن بعد
أيامٍ قليلة، وُجد الكاهن ميتًا في قصره، وقد ظهرت على جسده آثار خدوشٍ عميقة
كأنها من مخالب وحشٍ غير مرئي.
منذ
ذلك اليوم، اعتُبر العبث بالتماثيل المقدسة للوشق خطيئةً عظيمةً، واتخذ الفراعنة
إجراءاتٍ أكثر صرامةً لحماية معابدهم من الطامعين. كانوا يعتقدون أن الوشق يحمي
المعابد والمقابر من اللصوص والمتطفلين، وأنه يمكنه أن يعاقب كل من يحاول الإساءة
إلى الأماكن المقدسة.
وكان
الناس يتحدثون عن قصصٍ مخيفة عن الوشق الملعون، الذي يظهر في الليل ليعاقب
الأشرار. كانوا يؤمنون أنه يمكنه أن يتحول إلى شكل بشري، وأن يتسلل إلى قلوب الناس
ليعرف ما يخفونه من أسرار. وكان الجميع يخافون من غضبه، ويحاولون تجنب إثارة غضبه
بأي شكل من الأشكال.
الفصل
الخامس: ظلٌ عبر الزمن
مرت
قرونٌ طويلة، وسقطت الممالك، لكن أسطورة الوشق لم تمت. في القرن العشرين، أثناء
التنقيب عن مقبرة فرعونية في الأقصر، وجد المستكشفون لوحةً حجريةً تصوّر وشقًا
بجانب ملكٍ مجهول، بعينين تتوهجان كأنهما يراقبان كل من يقترب. كانت اللوحة منقوشة
بنقوشٍ هيروغليفية تحكي قصة الفرعون "نيفر كا رع" ووشقه الأبيض، وتحذر
من لعنة الوشق المقدس.
وفي
الليلة التالية، أقسم الحراس أنهم رأوا وشقًا كبيرًا يتجول بين الأنقاض، ينظر
إليهم بعينيه الذهبيتين قبل أن يختفي في الظلام. كان الحراس يشعرون بالرعب والخوف،
وكانوا يؤمنون أن الوشق جاء ليحمي المقبرة من المستكشفين. وكانوا يتحدثون عن
أصواتٍ غريبة تُسمع في الليل، كأنها همسات الأرواح التي لا تزال تسكن المكان.
هل كان
مجرد حيوانٍ ضال؟ أم أن روح الفراعنة لا تزال تحوم في رمال مصر، متجسدةً في صياد
الصحراء الأبدي؟ كان المستكشفون يتساءلون عن ذلك، وكانوا يشعرون بالقلق من احتمال
إثارة غضب الوشق المقدس. وكانوا يحاولون التعامل بحذر شديد مع الأنقاض، خوفًا من
أن يتعرضوا للعنة الوشق.
وهكذا
بقيت أسطورة الوشق حيّة، تنساب عبر الزمن، تروي حكاية الصياد الذي لم يرحل أبدًا.
كانت تُتناقل بين الأجيال، وكانت تُحفظ في قلوب الناس، كرمزٍ للقوة والغموض
والحماية. وكان الوشق يظل يحرس الصحارى والمعابد، يراقب الجميع بعينيه الذهبيتين،
ويبقى سرًا غامضًا لا يُفصح عنه إلا الزمن.
تعليقات
إرسال تعليق